فصل: السَّابِعُ: بِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ بَعْدَ خِطَابِ فَاعِلِهِ أَوْ تَكَلُّمِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فائدة في تكرار الالتفات في موضع واحد:

وَقَدْ تَكَرَّرَ الِالْتِفَاتُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ من آياتنا إنه هو السميع البصير} فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، فَانْتَقَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي قوله: {سبحان الذي أسرى بعبده}، إلى التكلم في قوله: {باركنا حوله} ثُمَّ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: {ليريه} بِالْيَاءِ عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ ثُمَّ عَنِ الْغَيْبَةِ إلى التكلم في قوله: {آياتنا} ثُمَّ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: {إنه هو السميع البصير}.
وَكَذَلِكَ فِي الْفَاتِحَةِ فَإِنَّ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قوله: {مالك يوم الدين} أُسْلُوبُ غَيْبَةٍ ثُمَّ الْتَفَتَ بِقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإياك نستعين} إِلَى أُسْلُوبِ خِطَابٍ فِي قَوْلِهِ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم} وَلَمْ يَقُلِ (الَّذِينَ غَضِبْتَ) كَمَا قَالَ: {أَنْعَمْتَ عليهم}.

.السَّادِسُ: مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ:

كَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} ولم يقل: (لَقَدْ جَاءُوا) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ مثل قولهم ينبغي أن يكون موبخا علهي مُنْكَرًا عَلَيْهِ قَوْلُهُ كَأَنَّهُ يُخَاطِبُ بِهِ قَوْمًا حَاضِرِينَ.
وَقَوْلِهِ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمر} ثم قال: {وإن منكم إلا واردها}.
وَقَوْلِهِ: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كان لكم جزاء}.
وقوله: {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم}.
وَقَوْلِهِ: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا ما كنزتم}.
وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} ثُمَّ قَالَ: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا}.
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى}.
وَقَوْلِهِ: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ من دون المؤمنين}.
وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نمكن لكم}.
وقوله حكاية عن الخليل: {وإبراهيم إذ قال لقومه اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كنتم تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وتخلقون إفكا} إلى قوله: {فما كان جواب قومه}.
وَقَوْلِهِ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جميعا}.
وَقَوْلِهِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فانسلخ منها} إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عليه يلهث أو تتركه يلهث}.
وَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح} الآية.
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا}، وهو عجيب لأن (الذين) موصول لفظه للغيبة وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَائِدٍ وَهُوَ الضَّمِيرُ فِي (آمِنُوا) فَكَيْفَ يَعُودُ ضَمِيرُ مُخَاطَبٍ عَلَى غَائِبٍ! فَهَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ.
وَقَوْلَهُ: {مَالِكِ يوم الدين إياك نعبد}، فقد التفت عن الغيبة وهو (مالك) إلى الخطاب وهو (إياك نعبد).
وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ: قُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ فَفِيهِ الْتِفَاتَانِ- أَعْنِي فِي الْكَلَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ:
أَحَدُهُمَا: فِي لَفْظِ الْجَلَالَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَاضِرٌ فَأَصْلُهُ الْحَمْدُ لَكَ.
وَالثَّانِي: (إياك) لِمَجِيئِهِ عَلَى خِلَافِ الْأُسْلُوبِ السَّابِقِ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ: (قُولُوا) كَانَ فِي (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الْتِفَاتٌ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَمَدَ نَفْسَهُ وَلَا يَكُونُ فِي {إِيَّاكَ نعبد} الْتِفَاتٌ لِأَنَّ (قُولُوا) مُقَدَّرَةٌ مَعَهَا قَطْعًا فَإِمَّا أن يكون في الآية التفات أَوْ لَا الْتِفَاتَ بِالْكُلِّيَّةِ.

.السَّابِعُ: بِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ بَعْدَ خِطَابِ فَاعِلِهِ أَوْ تَكَلُّمِهِ:

فَيَكُونُ الْتِفَاتًا عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بعد {أنعمت} فَإِنَّ الْمَعْنَى: غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ. ذَكَرَهُ التَّنُوخِيُّ فِي (الْأَقْصَى الْقَرِيبِ) وَالْخَفَاجِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى رَأْيِ السَّكَّاكِيِّ تَجِيءُ الْأَقْسَامُ السِّتَّةُ فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ وَهُوَ الِانْتِقَالُ التقديري.
وزعم صاحب (ضَوْءِ الْمِصْبَاحِ) أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهَا إِلَّا وَضْعُ الْخِطَابِ وَالْغَيْبَةِ مَوْضِعَ التَّكَلُّمِ وَوَضْعُ التَّكَلُّمِ مَوْضِعَ الْخِطَابِ وَمَثَّلَ الثَّالِثَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا لِيَ لا أعبد الذي فطرني}، مَكَانَ (وَمَا لَكُمْ لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ).
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنَ الِالْتِفَاتِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالْمُوفُونَ بعهدهم} ثم قال: {والصابرين في البأساء والضراء}، وقوله: {المقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة}.

.الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي أَسْبَابِهِ:

اعْلَمْ أَنَّ لِلِالْتِفَاتِ فَوَائِدُ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ فَمِنَ الْعَامَّةِ التَّفَنُّنُ وَالِانْتِقَالُ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ.
لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَنْشِيطِ السَّامِعِ وَاسْتِجْلَابِ صفائه واتساع مجاري الكلام وتسهيل لوزن وَالْقَافِيَةِ.
وَقَالَ الْبَيَانِيُّونَ: إِنَّ الْكَلَامَ إِذَا جَاءَ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ وَطَالَ حَسُنَ تَغْيِيرُ الطَّرِيقَةِ.
ونازعهم القاضي شمس الدين بن الجوزي وَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُجَرَّدَ هَذَا لَا يَكْفِي فِي الْمُنَاسَبَةِ فَإِنَّا رَأَيْنَا كَلَامًا أَطْوَلَ فِي هَذَا وَالْأُسْلُوبُ مَحْفُوظٌ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} إِلَى أَنْ ذَكَرَ عَشَرَةَ أَصْنَافٍ وَخَتَمَ بِـ: {الذاكرين الله كثيرا والذاكرات}، وَلَمْ يُغَيِّرِ الْأُسْلُوبَ وَإِنَّمَا الْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرُ التَّقَلُّبِ وَقَلْبُهُ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرحمن ويقلبه كَيْفَ يَشَاءُ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَائِبًا فَيَحْضُرُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَآخَرُ يَكُونُ حَاضِرًا فَيَغِيبُ فَاللَّهُ تَعَالَى لما قال: {الحمد لله رب العالمين} تَنَبَّهَ السَّامِعُ وَحَضَرَ قَلْبُهُ فَقَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإياك نستعين}.
وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَالِّهِ وَمَوَاقِعِ الْكَلَامِ فِيهِ عَلَى مَا يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ.
فَمِنْهَا: قَصْدُ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْمُخَاطَبِ، كَمَا فِي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رب العالمين}، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا افْتَتَحَ حَمْدَ مَوْلَاهُ بِقَوْلِهِ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الدَّالِّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحَمْدِ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ التَّحَرُّكَ لِلْإِقْبَالِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَإِذَا انتقل إلى قوله: {رب العالمين} الدَّالِّ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ لِجَمِيعِهِمْ قَوِيَ تَحَرُّكُهُ فَإِذَا قال: {الرحمن الرحيم} الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ مُنْعِمٌ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا تَزَايَدَ التَّحَرُّكُ عِنْدَهُ فَإِذَا وَصَلَ لِـ: {مالك يوم الدين} وهو خاتمة الصافات الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَالِكُ الْأَمْرِ يَوْمَ الْجَزَاءِ فَيَتَأَهَّبُ قُرْبَهُ وَتَيَقَّنَ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ بِتَخْصِيصِهِ بِغَايَةِ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِعَانَةِ فِي الْمُهِمَّاتِ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا اخْتِيرَ لِلْحَمْدِ لَفْظُ الْغَيْبَةِ وَلِلْعِبَادَةِ الْخِطَابُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْحَمْدَ دُونَ الْعِبَادَةِ فِي الرُّتْبَةِ فَإِنَّكَ تَحْمَدُ نَظِيرَكَ وَلَا تَعْبُدُهُ إِذِ الْإِنْسَانُ يَحْمَدُ مَنْ لَا يَعْبُدُهُ وَلَا يَعْبُدُ مَنْ لَا يَحْمَدُهُ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ اسْتُعْمِلْ لَفْظُ الْحَمْدِ لِتَوَسُّطِهِ مَعَ الْغَيْبَةِ فِي الْخَبَرِ فَقَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وَلَمْ يَقُلْ: (الْحَمْدُ لَكَ) وَلَفْظُ الْعِبَادَةِ مَعَ الْخِطَابِ فَقَالَ: {إِيَّاكَ نعبد} لينسب إلى العظيم حال المخاطبة والمواجهة على مَا هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّأَدُّبِ. وَعَلَى نَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ جَاءَ آخِرُ السورة فقال: {الذين أنعمت عليهم} مُصَرِّحًا بِذِكْرِ الْمُنْعِمِ وَإِسْنَادِ الْإِنْعَامِ إِلَيْهِ لَفْظًا ولم يقل: (صراط المنعم علهيم) فَلَمَّا صَارَ إِلَى ذِكْرِ الْغَضَبِ رَوَى عَنْهُ لَفْظَ الْغَضَبِ فِي النِّسْبَةِ إِلَيْهِ لَفْظًا وَجَاءَ بِاللَّفْظِ مُتَحَرِّفًا عَنْ ذِكْرِ الْغَاضِبِ فَلَمْ يَقُلْ غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ تَفَادِيًا عَنْ نِسْبَةِ الْغَضَبِ فِي اللَّفْظِ حَالَ الْمُوَاجَهَةِ.
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا}، فَإِنَّ التَّأَدُّبَ فِي الْغَيْبَةِ دُونَ الْخِطَابِ.
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْحَقِيقَ بِالْحَمْدِ وَأَجْرَى عَلَيْهِ بالصفات الْعَظِيمَةِ مِنْ كَوْنِهِ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ وَرَحْمَانًا وَرَحِيمًا وَمَالِكًا لِيَوْمِ الدِّينِ تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِمَعْلُومٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ حَقِيقٍ بِأَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا دُونَ غَيْرِهِ مُسْتَعَانًا بِهِ فَخُوطِبَ بِذَلِكَ لِتَمَيُّزِهِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ كُلِّهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ إِيَّاكَ يَا مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ نَخُصُّ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ لا غيرك.
قيل: ومن لطائف التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مُبْتَدَأَ الْخَلْقِ الْغَيْبَةُ مِنْهُمْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَقُصُورُهُمْ عَنْ مُحَاضَرَتِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ وَقِيَامُ حِجَابِ الْعَظَمَةِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا عَرَفُوهُ بِمَا هُوَ لَهُ وَتَوَسَّلُوا لِلْقُرْبِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَأَقَرُّوا بِالْمَحَامِدِ لَهُ وَتَعَبَّدُوا لَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ تَأَهَّلُوا لِمُخَاطَبَاتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ فَقَالُوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وَفِيهِ أَنَّهُمْ يُبْدُونَ بَيْنَ يَدَيْ كُلِّ دُعَاءٍ لَهُ سُبْحَانَهُ وَمُنَاجَاةٍ لَهُ صِفَاتِ عَظَمَتِهِ لِمُخَاطَبَتِهِ عَلَى الْأَدَبِ وَالتَّعْظِيمِ لَا عَنِ الْغَفْلَةِ وَالْإِغْفَالِ ولا عن اللعب والاستخفاف كما يَدْعُو بِلَا نِيَّةٍ أَوْ عَلَى تَلَعُّبٍ وَغَفْلَةٍ وَهُمْ كَثِيرٌ.
وَمِنْهُ أَنَّ مُنَاجَاتَهُ لَا تَصْعَدُ إلا إذا تطهر مِنْ أَدْنَاسِ الْجَهَالَةِ بِهِ كَمَا لَا تَسْجُدُ الْأَعْضَاءُ إِلَّا بَعْدَ التَّطْهِيرِ مِنْ حَدَثِ الْأَجْسَامِ وَلِذَلِكَ قُدِّمَتِ الِاسْتِعَاذَةُ عَلَى الْقُرْآنِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرسول} ولم يقل: (واستغفرت لهم) وعدل عنه إلى طريق الالتفات لِأَنَّ فِي هَذَا الِالْتِفَاتِ بَيَانَ تَعْظِيمِ اسْتِغْفَارِهِ وَأَنَّ شَفَاعَةَ مَنِ اسْمُهُ الرَّسُولُ بِمَكَانٍ.
وَمِنْهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى مَا حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ وَارِدًا عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإليه ترجعون}، أَصْلُ الْكَلَامِ: (وَمَا لَكَمَ لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ) وَلَكِنَّهُ أَبْرَزَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ الْمُنَاصَحَةِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يُرِيدُ مُنَاصَحَتَهُمْ لِيَتَلَطَّفَ بِهِمْ وَيُرِيَهُمْ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ لَهُمْ إِلَّا مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ لَمَّا انْقَضَى غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ قال: {وإليه ترجعون} لِيَدُلَّ عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَصْلِ الْكَلَامِ وَمُقْتَضِيًا لَهُ ثُمَّ سَاقَهُ هَذَا الْمَسَاقَ إِلَى أن قال: {إني آمنت بربكم فاسمعون}.
ومنها: أن يكون الغرض به التَّتْمِيمَ لِمَعْنًى مَقْصُودٍ لِلْمُتَكَلِّمِ، فَيَأْتِي بِهِ مُحَافَظَةً على تتميم مَا قَصَدَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ لَهُ، كَقَوْلِهِ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ ربك إنه هو السميع العليم}، أصل الكلام: (إنا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنَّا) وَلَكِنَّهُ وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلْإِنْذَارِ بِأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ تَقْتَضِي الرَّحْمَةَ لِلْمَرْبُوبِينَ لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ لِتَخْصِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ أَوِ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَ إِنَّمَا هُوَ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ ثُمَّ الْتَفَتَ بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى الرَّبِّ الْمَوْضُوعِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْ تَتْمِيمِ الْمَعْنَى.
وَمِنْهَا: قَصْدُ الْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} كأنه يذكرلغيرهم حَالَهُمْ لِيَتَعَجَّبَ مِنْهَا وَيَسْتَدْعِيَ مِنْهُ الْإِنْكَارَ وَالتَّقْبِيحَ لَهَا إِشَارَةً مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ إِلَى أَنَّ مَا يَعْتَمِدُونَهُ بَعْدَ الْإِنْجَاءِ مِنَ الْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ مِمَّا يُنْكَرُ وَيُقَبِّحُ.
وَمِنْهَا: قَصْدُ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بلد ميت فأحيينا به} فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ سَوْقُ السَّحَابِ إِلَى الْبَلَدِ الْمَيِّتِ وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ دَالًّا عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لأنه أدخل في الاختصاص وأدل عليه: (سُقْنَا) وَ: (أَحْيَيْنَا).
وَمِنْهَا: قَصْدُ الِاهْتِمَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم} فَعَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي (قَضَاهُنَّ) وَ: (أَوْحَى) إِلَى التَّكَلُّمِ فِي (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا) لِلِاهْتِمَامِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْكَوَاكِبَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا لِلزِّينَةِ وَالْحِفْظِ وَذَلِكَ لِأَنَّ طَائِفَةً اعْتَقَدَتْ فِي النُّجُومِ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ حِفْظًا وَلَا رُجُومًا فَعَدَلَ إِلَى التَّكَلُّمِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُهِمًّا مِنْ مُهِمَّاتِ الِاعْتِقَادِ وَلِتَكْذِيبِ الْفِرْقَةِ الْمُعْتَقِدَةِ بُطْلَانَهُ.
وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّوْبِيخِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}، عَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ قَائِلَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوَبَّخًا وَمُنْكَرًا عَلَيْهِ وَلَمَّا أَرَادَ تَوْبِيخَهُمْ عَلَى هَذَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِالْحُضُورِ، فَقَالَ: {لَقَدْ جِئْتُمْ} لِأَنَّ تَوْبِيخَ الْحَاضِرِ أَبْلَغُ فِي الْإِهَانَةِ لَهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}، قال: {تقطعوا أمرهم بينهم} دُونَ (تَقَطَّعْتُمْ أَمْرَكُمْ بَيْنَكُمْ)، كَأَنَّهُ يَنْعِي عَلَيْهِمْ مَا أَفْسَدُوهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ وَيُقَبِّحُ عِنْدَهُمْ مَا فَعَلُوهُ وَيُوَبِّخُهُمْ عَلَيْهِ قَائِلًا أَلَا تَرَوْنَ إِلَى عَظِيمِ مَا ارْتَكَبَ هَؤُلَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ فَجَعَلُوا أَمْرَ دِينِهِمْ به قطعا تمثيلا لأخلاقهم في الدين.